منطلقات: أبجدية الهوية التونسية (1/2)

mahmouddhawedi

آفة طلاسم الجهل بعد الثورة

محمود الذوادي *
 مما يلفت النظر على الساحة التونسية أن ما يجري من نقاش وجدال بعد الثورة حول هوية الشعب التونسي يتصف بكثير من الجهل و الإلتباس حول الموضوع لدى معظم الأطراف المشاركة، كما يشهد على سبيل المثال برنامج قناة نسمة مساء 17/06/2011 .فما من شك أن مسألة هويات الشعوب أصبحت اليوم من معالم خطابات وسياسات عصر العولمة الثقافية على الخصوص. ولكن طرحت قضية الإنتماء الهوياتي للمجتمع التونسي الحديث منذ بداية الإستقلال على القيادة السياسية التونسية الجديدة برئاسة الحبيب بورقيبة. فمعروف عن هذا الأخير اختلافاته السياسية ذات الجذورالثقافية في العمق مع العديد من القادة العرب وفي طليعتهم الرئيس جمال عبد الناصر المنادي بقوة لصالح الهوية العربية لكل الشعوب العربية. وظن الناس سذاجة وخطأ أن الخلاف بين الرجلين سياسي بحت بينما يعود الأمر في جوهره إلى عوامل ثقافية. فعلى عكس عبد الناضر، نجد بورقيبة لا يؤمن مثلا بعروبة تونس عبر إعطاء اللغة العربية الأولوية في المجتمع التونسي بعد الإستقلال. وكان لذلك انعكاسات أد ت إلى بعض الإلتباس والغموض بالنسبة للإنتماء الشفاف وغير المرتبك للهوية العربية الإسلامية للمجتمع التونسي. وتبني هذا الموقف السياسي بعد الإستقلال بعض النخب الفكرية التونسية (والناس” وبعض النخب أيضا” على د ين ملوكهم كما يقال) التي تدعو إلى مشروعية العمل على إبراز الجوانب الفينيقية والقرطاجنية وغيرها في الانتماء الهوياتي للشعب التونسي. وبسبب تعليمها المغترب لغة وثقافة وفكرا تتشابه تلك النخب المتعلمة وشبه المتعلمة مع الحكام السياسيين في كون أن كلا منهما لا يرغب في إعطاء الأولوية للمعالم العربية الإسلامية في تشكيل الهوية التونسية، ناهيك عن تنكر البعض تنكرا كاملا لكل ما هو عربي وإسلامي. يشخص مؤلف كتاب العقل العربي
The Arab Mind 1983
 آثار التعليم المزدوج اللغة والثقافة  في مجتمعات المغرب العربي لصالح الفرنسية وثقافتها. فوجد أنها تؤدي عموما إلى الأعراض التالية لدى خريجي نظام هذا التعليم: 1 ـ الإنتماء إلى ثقافتين دون القدرة على تعريف الذات بالإنتماء الكامل لأي منهما.2 ـ التذبذب المزدوج يتمثل في رغبتهم  كسب علاقة حميمية كاملة مع الغرب ومع مجتمعهم في نفس الوقت دون النجاح في أي منهما. 3 ـ يتصف خريجو ذلك التعليم بشخصية منفصمة ناتجة عن معايشة عاملين قويين متعاكسين: الإرتباط بالثقافة العربية والإنجذاب إلى الثقافة الغربية  4 ـ عداء سافر للإستعمار الفرنسي يقابله ترحيب كبير بلغته وثقافته. ويوجد صمت كامل في ثقافة المجتمع التونسي قبل الثورة وبعدها حول تلك المعالم السلبية للتعليم المزدوج اللغة والثقافة. بل لايسمع المرء إلا المدح خطأ وتآمرا لهذا النوع من التعليم الذي قد يؤدي حتى إلى انفصامات في شخصيات أصحابه.

العوامل الحاسمة في تحديد الهوية الجماعية
 أريد أن أبين هنا وباختصار شديد بأن تصور التونسيات والتونسيين لمحددات الهويات الجماعية للشعوب تصور قاصر وخاطئ موضوعيا وعلميا  . فالبعض منهم يؤكد، مثلا، على أسبقية حضور الحضارة الفينيقية والقرطاجنية والبربرية في الأرض التونسية قبل مجيء العرب والمسلمين بحضارتهم إلى افريقية (تونس). وآثار الفينقيين والقرطاجنيين والبربر لا تزال ماثلة للعيان في أماكن مختلفة من القطر التونسي. وهذا أمر لا جدال في صحته تاريخيا وأثريا.
 لكن السؤال المشروع بهذا الصدد هو : ما هي العوامل المحددة والحاسمة أكثر لهويات الشعوب والأمم: أهي العوامل المادية (الإرث المعماري والسلالة العرقية ونوع الطعام والشراب واللباس…) أو العوامل الرمزية الثقافية/غير المادية مثل اللغة والدين والفكر والأساطير… التي تحملها الحضارات البشرية عبر العصور ؟
يتجلى من التحليل الموضوعي لمسألة الهوية أن ما أسميه  الرموز الثقافية هي الأكثر حسما في تحديد هويات الأفراد والجماعات والشعوب. والأمثلة الشاهدة على ذلك عديدة. فحركة الهجرة من الجنوب إلى الشمال ،مثلا، لا تسلب المهاجرين من هوياتهم الثقافية بمجرد أن يحلوا جغرافيا بالمجتمعات المستقبلة لهم ذات الخلفيات اللغوية والدينية/الثقافية المختلفة عنهم. ومن ثم جاء مشكل الإندماج الثقافي للمهاجرين في قيم المجتمع المضيف في طليعة مشاكل عولمة الهجرة في الماضي والحاضر وسيكون الأمر كذ لك في المستقبل.
 تتفوق عوامل اللغة والدين والثقافة… على العوامل الأخرى في تحديد هويات الأفراد والمجتمعات والشعوب بسبب ما أطلق عليه مركزية الرموز الثقافية في هوية الجنس البشري، وأعني بهذا أن الجنس البشري يتميز عن غيره من الأجناس الأخرى بطريقة فاصلة وحاسمة بالرموز الثقافية (اللغة المنطوقة والمكتوبة والفكر والمعرفة/العلم والدين والأساطير والقوانين والقيم والأعراف الثقافية). أي أن الإنسان هو في المقام الأول كائن رموزي ثقافي بالطبع. وللبرهنة على مصداقية هذه المقولة أقد م شرحا مختصرا بهذا الصد د.
*عالم الاجتماع/تونس
   البريد الإلكتروني: m.thawad@yahoo.ca