لوحة للفنان سنان حسين كثيرًا ما يُنظر للغيرية (heterosexuality) بوصفها وضعًا قبليًا أو بدهيًا، إذ تبدو كأنها تضرب بجذورها في تاريخ البشر، منذ لحظة الوجود الأولى. وفي المقابل فإنه يُنظر إلى المثلية (homosexuality) بوصفها هوية فردية حديثة، كما يخبرنا فوكو عن ارتباطها ببداية التأريخ الطبي. هذه البداهة المعاصرة تستحق المساءلة، فهل الغيرية ثابتة، وعابرة للتاريخ، -- وطارئ، مثله في هذا مثل مفهوم المثلية، وبالتالي يمكن لنا الحديث عن مدى حداثة هذا التقسيم ككل، مما يتيح لنا فرصة أكبر لقراءات أكثر انفتاحًا في قضايا الجنسانية. يجب التنبيه بشكل مسبق، إلى أن الحديث هنا منحصر في سياق تشكل المفاهيم خطابيًا، الأمر الذي فتح الباب لتشكل هويات مستقلة، تعرّف ذاتها من خلال ممارستها الجنسانية، وهو أمر شديد الحداثة في التاريخ الانساني. جذور المفهومين -- وحتى 1928. ويعود أول ظهور رسمي لهما في الملحق التابع للمعجم فيما بعد. تقول مارجريت جاربر في كتابها «إزدواجية الميول الجنسي والإثارة الجنسية في الحياة اليومية» (Bisexuality and the Eroticism of Everyday Life) أن كلمة الغيرية (heterosexuality) ليست سوى اشتقاقٍ عكسيٍ لغويٍ (back formation) ظهر كمقابل اضطراري لكلمة المثلية (homosexuality). وكلمة الغيرية لم تظهر إلا عندما درج استخدام كلمة المثلية على ألسنة الناس، وأصبح استخدامها يدل على جنسانية مختلفة، وذلك في محاولة لفهم هوية الفرد بعدما ظهرت المثلية، فالغيرية هنا محتاجة لضدها لتوجد. وبأخذ هذا في عين الاعتبار، فإن فكرة وجود الغيرية كهوية قائمة منذ القدم تتزعزع. وبالتالي -- أحد أبرز من حاول تتبع هذه الجذور وكشفها هو جوناثان ند كاتز (1). يشير كاتز في كتابه «اختراع الغيرية» (The invention of heterosexuality) (2، والذي يقدّم هذا المقال قراءة في مجموعة من فصوله المنتقاة، إلى أن أول استخدام للكلمة في الولايات المتحدة كان في ورقة للدكتور جيمسي جي كيرنان، -- نرى مما تقدم، أن مقالة كيرنان المفصلية في تاريخ تكوّن الاصطلاحات الجنسانية، قدمت مفهومين جديدين متمثلين بالغيرية والمثلية. على الرغم من جدتهما، إلا أن النموذج الإرشادي الحاكم (البرادايم Paradigm) ما زال مسيطرًا، فمعنى الكلمتين ما زال محكومًا بمعايير الجنسانية في العصر الفيكتوري التي ترى أن الغاية الأساسية من ممارسة الجنس هي الإنجاب والتناسل، حيث تركزت مُثل الجنسانية في تلك الحقبة الزمنية حول الزواج من أجل إنجاب مجموعات جديدة من الرجال والنساء صحيحي الهوية الجنسية، بشكلٍ منضبط تحت صيغ قانونية. فجسد الإنسان مجرد أداة للإنتاج، والهدف الوحيد من -- بزوغ أفق جديد بعد محاولات كيرنان الاصطلاحية لتشكيل مفاهيم جنسانية حديثة، قدّم ريتشارد فون كرافت إيبنج، بروفيسور الطب النفسي والجهاز العصبي في جامعة فيينا، في كتابه المعنون بـ«الاعتلال النفسي الجنسي» (Psychopathia Sexualis)، والذي -- تكون حاضرة في الوعي، وبالتالي فهي ليست الهدف الحقيقي من غريزة ممارسة الجنس الناتج عن الانجذاب العاطفي (sexual love)». يمكن القول أن إيبنج فتح المجال للعالم الحديث لتكوين معايير جديدة عن الجنسانية، وأن أفكازه قد ساهمت في تغيير التصور السائد لطبيعة الجنس، نحو المتعة كمحدد أساسي. يرى كاتز أن إيبنج وضع رغبة الإنجاب في منطقة غير معهودة، فأصبحت الممارسة الجنسية متضمنة لهدف جواني كامن في لا وعي الإنسان. لقد ساهمت تنحية غاية التناسل في منطقة خفية عن الوعي الإنساني المباشر، في فتح أفق جديد تنمو من خلاله معايير متعة جنسانية مختلفة. وبذلك أرسى إيبنج بتعريفه المختلف للغيرية، بوصفها انجذابًا شهوانيًا نحو الجنس الآخر، الأسس لثورة نوعية على معايير الجنسانية القديمة. هنا، لابد من الإشارة إلى أن هذا الأفق الجديد لم يكن لينمو إلا بوجود -- الفيكتوري التي تحث على العمل، منتجًا في نهاية المطاف تحولًا جوهريًا في القيم السائدة، ومسفرًا عن أخلاقيات جنس تعلي من متع الشهوة للنساء والرجال على السواء. مما جعل تشكل الهويات الجنسانية ككل ممكنة. أقصد بذلك أن هذا التحول الاقتصادي جعل من فكرة المتعة كمحدد أساسي لممارسة الجنس، مدخلًا ينظر الإنسان من خلاله إلى ذاته مستبطنًا ممارساته الجنسية. -- إضافةً إلى تلك العوامل التي تحدثنا عنها أعلاه، والتي تسببت في تشكيل مفاهيم الجنسانية الحديثة، يشير كاتز إلى أثر صعود نفوذ وقوة ممارسي مهنة الطب، في أواخر القرن التاسع عشر، مما سمح لهم بوضع معايير لما هو صحي، فأصبح هناك جنسانية صحية جديدة. حيث قام الأطباء، وباسم العلم، بوضع مُثُل جديدة لما ينبغي أن تتضمنه العلاقة الصحية بين الذكر والأنثى، بحيث تشتمل على وجوب وجود الإثارة الشهوانية. إن الأطباء الذين أطلقوا حكمًا أخلاقيًا -- الجنسي، فجعلوا منها مضطربة عقليًا (mental disturbance)، واصفين بذلك ما يعتبرونه برودةً جنسية. ما يمكن استشفافه من ذلك، هو مقدار السلطة التي يمتلكها الحقل الطبي في تشكيل جنسانية المجتمع. عزز صعود الأطباء كجماعة مهنية محترفة من صعود نموذجٍ جديد، مفعم بالجنسانية للحب الطبيعي (normal love)، فالنساء والرجال، وفقًا للنموذج الجديد، يمتلكون طاقة جنسية صحية كامنة. هذا الوصف الطبي شكّل أخلاقيات جنسية جديدة، وألبسها صورة الحياد الأخلاقي. لقد خلق النموذج الطبيعي -- صور موحدة لما يجب أن يكون عليه الجندر. لاحظ كاتز أن تطبيع (normalization) الجنسانية الذي خرج من رحم مهنة الطب، قام بعملية فصل شديدة القوة بين ما يمكن وصفه بالجنس الطبيعي / الغيري، والجنس اللاطبيعي أو المنحرف، مما جعل عالم الجنس والشهوة أقل تنوعًا، -- إن أهمية المكون البيولوجي تنبع من هيمنة التفكير العلمي على واقع فهمنا المعاصر لكل مناحي الحياة، بل للوجود في ذاته. ومن هنا كانت كل الدراسات الساعية لإيجاد أسس بيولوجية للجنسانية، كالباحثة عن جينات معينة للمثلية، تفتقد نتائجها للحتمية، لأنها تغفل جانبًا هامًا تتشكل وفقًا له الجنسانيات ككل، وهو سياق التاريخ والثقافة. يجعل هذا من قضايا الجنسانية من أهم حقول البحث الاجتماعي والأنثروبولوجي، كنوع من الدراسات المختلفة التي تساهم في طرق باب هذه المواضيع من زوايا مختلفة. -- في منتصف الستينات من القرن المنصرم، حيث تميزت باختلافها على نحو تام، على المستويين النظري والعملي، عن كل ما يربطها بالإنجاب والتناسل، لتصبح ذاتًا ذات طبيعة وخصوصية مختلفة تمامًا. إن هذه التقسيمات الجنسانية وليدة لحظات تاريخية ثقافية معينة، من هنا لا يمكن الحديث عن أي هويات مستقلة عابرة للزمن من دون أخذ المعطى الثقافي والاجتماعي، بعين الاعتبار، بوصفها محدّدات لأي هوية. باستبطان ذلك، يمكن الحديث بشيء من الراحة عما أصفه بالجنس كممارسة لا كهوية، وعن جنسانية من صنع سياق ثقافي واجتماعي وتاريخي معين، تستخدم فيه مؤسسات المجتمع قواها في صبغة أفرادها على ما ترتضيه من خصائص لكل فرد منه، فتُقسّم الأدوار بعناية لتتوافق مع ما يراه المجتمع من -- * الهوامش والمراجع ^الهوامش: ^1- جوناثن نيد كاتز (1938 م) هو مؤرخ أمريكي يبحث في تاريخ الجنسانية لدى الانسان، ركز في أعماله على مسألة الانجذاب الجنسي بين متشابهي الجنس، وعلى التحولات التي طرقة على المنظومات الجنسانية الاجتماعية عبر التاريخ. تعبر أفكاره عن مسألة متجذرة في تراث مدرسة البنائية الاجتماعية، والتي تتحدث عن أن الخصوصية الثقافية والتاريخية هي ما يحدد تعريفاتنا عن جنسانية البشر، وتنظيماتنا الاجتماعية الضابطة لنشاطتنا الجنسية، ورغباتنا الشهوانية، وحتى طبيعة علاقتنا التي تربطنا بشركاء حياتنا، وصولًا إلى هوياتنا الجنسية. ^2- Katz, J. (2007). The Invention of Heterosexuality. University of Chicago Press. ^3- تجب الإشارة إلى وجوب التفريق ما بين هذا الاضطراب العقلي المشار إليه أعلاه، وبين ما نشير إليه في أيامنا هذه بـ«ازدواجية الميول الجنسي» (Bisexuality)، فالحديث هنا عن جنس الشريك الجنسي للفرد وانجذابه الجنسي له، في حين تتحدث الخنوثة العقلية عن جندر عقلي، ولذلك توضح ليزا دوقان لكاتز إمكانية أن تقود الخنوثة العقلية إلى