* ثقافة / ميشيل فوكو كيف تساعدنا قراءة فوكو على فهم تاريخ الجنسانية؟ (مقدمة) [855c78cc8578ce0addfc33e4cadbd11c-560x380.jpg] -- ظلّت أغنية «سوف أقرأ» تتردد في مخيّلتي وأنا أقرأ كتاب «إرادة المعرفة»، وهو الجزء الأول من ثلاثية «تاريخ الجنسانية»[1] للمفكر الفرنسي ميشيل فوكو، فبالإضافة لإشارتها لفعل القراءة الذي أمارسه، ولتماسها مع أفكار الجنسانية موضوع الكتاب، فقد وجدتُ أن من الممكن مقاربة أطروحات فوكو، في ضوء كونها مباراة «قراءة» شرسة بينه وبين معاصريه من المؤرخين والماركسيين آنذاك. -- العالمية الأولى والثانية. فلأن فوكو لم يقتنع بمقاربتهم لمفهوم الجنسانية، أخذ على عاتقه تقديم «قراءة» جديدة للمفهوم. وبأسلوب تميز بالتراكيب اللغوية المعقدة، ونبرة محملة بكثير من السخرية والاستهزاء، قدم طرحه المختلف، متجاوزًا به الرؤية -- الحداثي[2]. بين المقاربة الماركسية ومقاربة فوكو لمفهوم الجنسانية: نقطة الانطلاق الزمنية «سوف تكون مترابطة -- الفيكتوري»، نسبة إلى عهد الملكة فيكتوريا. على الجانب الآخر، يبدأ فوكو تأريخه لتطور مفهوم الجنسانية من نقطة أسبق زمنيًا، من بدايات عصر التنوير والمذهب العلمي/التجريبي، وهي النقطة التي يمكن اعتبارها لحظة توظيف «المعرفة» لترسيخ سلطة «القوة». شهدت هذه الحقبة الزمنية بدايات الطب النفسي، وما تمخض عنه من تصنيف الاضطرابات النفسية، إلى «كتالوجات»[3]، لا تزال مستمرة حتى الآن، ولو اختلفت بعض الشيء، وكذلك شهدت محاولات تشريح وتدوين الجنسانية، وظهور ما أسماه فوكو بـ «علم الجنس»[4]. بالتالي، ولأنه جرت معالجة الأفكار من خلال إخضاع المعلومات للترتيب والتصنيف، فلم تعد آليات السلطة سوى محاولة دائمة لعقلنة التسلط، ولم تعد الجنسانية سوى امتداد لتلك المحاولات الحثيثة لفهم ماهية ذواتنا أو كما قال فوكو، «حقيقة ذواتنا». -- به ثغرات في النظرية الماركسية، هو تحليله النقدي للتعريف أحادي البعد لمفهوم «القوة» [5] عند الماركسيين، والذي كان الأساس الذي بنوا عليه مقاربتهم لتاريخ الجنسانية، والذي قادهم لافتراض أن ما حدث، منذ نهاية القرن السابع عشر، هو قمع للجسد أو الجنسانية، وهي الفكرة التي رفضها فوكو، والتي دفعته للاشتباك مع مفهوم القوة، وتحليل آلياته، من أجل تفنيدها. -- تقدير توابع ذلك، من حيثُ افتراضهم أن هذا الشكل أدى إلى تصاعد القمع. ويقلب فوكو الأمر رأسًا على عقب، ليقول أن ما حدث منذ نهايات القرن السابع عشر ليس بقمع الجسد أو الجنسانية ولكن تكثيف وجودهما بشكل غير مسبوق. يرى فوكو أن فرضية القمع [7] غير مفسِّرة بشكل كافٍ [8]، بسبب افتراضها -- وتجاوز تمظهراتها القانونية. ويرى أنها بالأحرى تتجلّي [9] عن طريق تفاعل عدد من الاستراتيجيات أو الأدوات [10] في شتى المناحي والجوانب بهدف إنتاج «خطاب»، ليصبح تاريخ الظاهرة (الجنسانية في هذه الحالة) هو تاريخ الخطاب. فـ «القوة» عند فوكو ليست مجرد عامل سلبي، مانع، ينفي وجود الشيء أو يحد -- المؤرخون الكلاسيكيون، ولكنه يطرح، عوضًا عن ذلك، «تحليلات» لعلاقاتها. في هذا الصدد، يرى فوكو أن القوة تعمل من خلال آليتين، هما آلية التحالف [12] وآلية الجنسانية. بآلية التحالف، يقصد فوكو النظام الأبوي [13]؛ الذي يؤمّن لنفسه -- لتعيد صياغة مفهوم النسب والدم، ويتحول من اقترانه بالسلطة والصلاحيات التي يتوارثها النبلاء في العصور الوسطى، لاقترانه بالعائلة التي ستصبح مستودعًا للجنسانية، ولترتبط قيمة الفرد وأهليته بالجسد، أو بالجنس [15] بمعنى أدق، وهو ما يؤدي إلى «تكثيف فكرة الجسد». آلية الجنسانية: وكيف يحدث تكثيف لفكرة الجسد « كقربان على المذبح سوف أجعلها تنزف تلك الساقطة -- تتم عملية التكثيف هذه، من خلال عدد من التقنيات يرى فوكو أنها كان لها أكبر الأثر في تحقيق التعريف الحديث للجنسانية كما نفهمها الآن. ويسميها فوكو « تقنيات القوة»، وهو مصطلح يشي بقدر لا بأس به من تأثير مارتن هايدجر [16] على فوكو. -- مرتبطة بأفكار التنوير، وتتلخص أولًا في نشوء الطب النفسي، وما نتج عنه من محاولات عنونة الاضطرابات النفسية/ الجنسية، بالإضافة لتطوّر مفهوم الهيستريا بوصفه مدخلًا لفهم جنسانية المرأة. ثانيًا: ظهور فكرة المناهج التعليمية الحديثة، وما ارتبط بها من نمو حالة الهلع حول موضوع جنسانية الأطفال وكيفية التحكم فيها. وثالثًا: تمازج الاقتصاد مع دراسات السكان (علم الديموجرافيا)، وما تبعه -- كامل لآليات الضبط [18] هذه بكل تنويعاتها. وبالأحرى الجانب الخاص من حياة الأفراد، ونعني بذلك الأسرة، الإنجاب، الاختيارات الجنسية لأفراد الأسرة، كما تصبح الجنسانية جزءًا لا يتجزأ من آليات القوة، أو وسيلة من آليات التكثيف والضبط. يختم فوكو هذا الجزء من تاريخ الجنسانية، بالقول إن الجنسانية، بمفهومها الحداثي، ليست نتاجًا لقمع أو لمنع أو تجريم، بل بالعكس هي موضوع وهدف آليات السلطة، بسبب تفشيها وإصرارها على الدخول في جنبات وأنحاء استعصت -- «الجواهر التي تفشي الأسرار» (1748)، بوصفها مثالًا على الرغبة الملحة في معرفة أسرار أجساد النساء ورغباتهن، دون الإشارة إلى أن ذلك الهوس ما هو إلا امتداد للتحكم في أجسادهن، وترسيخ فكرة جنسانية المرأة كقوة مُفسِدة أو مخرِّبة. إن صمت فوكو عن استهداف النساء وجنسانيتهن، رغم كونهن الموطئ الأول لتحكم آليات القوة، والمثال الأكثر فجاجة على توحش بعض تلك الآليات، -- الحاضر الغائب في كتابه، كذلك يدفعنا هذا لإعادة النظر في إمكانية قراءة فوكو في سياق آخر بنفس التسلسل الزمني الذي اتبعه حتى لو تراجع عن خطته الأصلية في الجزء الثاني والثالث من تاريخ الجنسانية. فحين استشهد فوكو بقصة ديديروت، وكيف أن ملك الكونغو مونجول هو من طلب من -- ويبقى السؤال: هل يمكن استخدام فرضية فوكو، في القيام بتحليل لتاريخ الجنسانية في الدول العربية؟ أو بمعنى آخر هل تستطيع فرضية فوكو كشف بعض جوانب التناقض والعبث فيما يخص ذواتنا وجنسانيتنا؟ ربما. -- *تأتي هذه الخواطر في إطار نقاشات لمجموعة قراءة مهتمة بالنظريات المعنية بالجنسانية، تحديدًا نظرية كوير ثيوري ( Queer Theory) كمحاولة للمشاركة في التعريف بتاريخ أهم مصطلحات وأفكار هذه النظريات باللغة العربية. -- كافي عن أفكار الثقافات الغير غربية عن الجنس. [5] فرغم أن موضوع بحثه الأساسي هو الجنسانية؛ إلا أن تحليله لمفهوم «القوة» في الفصلين الأول والثاني من الجزء الرابع بالإضافة للجزء الخامس؛ ليس فقط من أهم إنجازاته في الاشتباك مع هذا المفهوم بشكل عام، لكنه -- [16] تأثير تنكر له فوكو ولكن يظهر بشكل غير مباشر في الجزء الأول من تاريخ الجنسانية وبشكل أكثر وضوحا في الجزء الثاني حينما يشير فوكو إلى هوبرت درايفوس -أهم من شرح هايدجر في الأكاديميا الأمريكية- في مقدمة الجزء الثاني كواحد ممن أثروا في مسار البحث.